أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس السادس والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، لازلنا في مسؤوليّة الآباء عن تربية أبنائهم التربية الاجتماعيّة ، ولازلنا في موضوع الآداب العامّة التي حضّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تلقينها للصغار ، وقد تحدّثنا في درسٍ سابق عن أدب المجالسة ، وأدب المزاح ، وها نحن ننتقل إلى موضوعٍ جديد وهو أدب التهنئة .
الحقيقة أنّ الإنسان كائن اجتماعي ، وما دام كائناً اجتماعيّاً هكذا أراده الله ، فكيف جعله اجتماعيّاً ؟ جعلك تتقن شيئاً ، وجعلك بحاجة إلى مليون شيء ، أن تتقن شيئاً واحد ، وجعلك بحاجة إلى عشرات بل ملايين الملايين من الأشياء .
فهذا الزر المركّب على قميصك يحتاج إلى اختصاص ، وإلى معامل وباحثين ومهندسين وله تاريخ وخبرات وله أشكال عديدة ، وكذلك هذا الطعام ، وهذا الشراب ، وهذا المسكن ، فأنت بحاجة إلى ملايين وملايين الحاجات ، وسمح الله لك أن تتقن حاجةً أو حاجتين ، فأنت مضطّر لأن تعيش مع مجتمع ، ولو أردت أن تعيش وحدك لكان لزاماً عليك ان تشتري أرضاً وأن تحرثها، وأن تصنع محراثك وأن تزرع قمحاً وأن تحصده ، وأن تخبزه وأن تطحنه ، ومن أجل أن تصل إلى رغيف الخبز تحتاج إلى عمل لا تصتطيعه .. إذا أرادك الله أن تكون بين المجتمع.
ما دام الله سبحانه وتعالى أرادك كائناً اجتماعيّاً إذاً عليك أن تمتّن علاقتك بالمجتمع ، لأن الإنسان من خلال المجتمع تظهر أخلاقه ، ومن خلال أخلاقه يرقى عند ربّه ، فالفضائل لا تظهر وأنت وحدك في الجبل، فلو عاش أحد من الناس وحيداً في صومعة فلن تظهر فضائله ولا رذائله ولا يمتحن ولا يبتلى ، فكيف يعبد الله عزَّ وجلَّ ، فإنّك لن تستطيع أن تعبده إلا إذا قدّمت شيئاً للآخرين ، هؤلاء خلقه فإذا نصحتهم ، فإذا صدقتهم فإذا خدمتهم ترقى عند ربّهم .
كأنّ الله سبحانه وتعالى جعل خدمة الخلق سبيلاً إلى الحق ، فأنت كائن اجتماعي شئت أم لم تشأ ، هكذا صممت ، وصممت حاجاتك كي تكون كائناً اجتماعياً ، وأرادك الله بهذا الابتلاء أن ترقى بعلاقاتك مع الناس إلى خالق الناس .
إذا الهروب من المجتمع والتقوقع والانزواء والسلبيّة والطعن ليس من صفات المؤمن ، فصفات المؤمن الانفتاح .
فسيّدنا يوسف تعامل مع ملك وفي الأعم الأغلب كان الملك كافراً وقد قال تعالى عنه وهو يخاطب سيّدنا يوسف :
(( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ )) ( يوسف54)ماذا أجاب سيّدنا يوسف ؟ قال :
(( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )) (يوسف 55 )فلم ينسحب لوثوقـه من خبراته ، أراد أن يخدم المجتمع ، طلب من الملك أن يكون على خزائن الأرض بقولـه إني حفيظ عليم ، ومعنى ذلك أنّه إذا أوكل للإنسان موضوع أو عمل وبإمكانه أن ينفع الناس به فعليه أن يقبله ، وعليه أن يتمنّاه و أن يبادر إليه ، لأنّ خدمة الناس سبيلٌ إلى مرضاة ربّ الناس فأنت ترقى عند الله بقدر نفعك للناس وسوف ترى يوم القيامة كيف أنّ هناك مقياساً واحداً يرقى بك عند الله وهو مقدار ما حصّلته من معرفةٍ بالله ومقدار ما نفعت بهذه المعرفة خلق الله ، مقياس المعرفة والنفع وما سوى هذين المقياسين لا قيمة لبقيّة الأعمال كلّها فقد قال تعالى :
(( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا )) (الفرقان 23 )
فهذه الإنجازات الحضاريّة الضخمة وهذه الأعمال العملاقة ، والشركات ذات الجنسيّات المتعددة ، هذا كلُّه لا يرفع أصحابها عند الله ، فما يرفع الإنسان عند الله مقدار ما ينفع به خلق الله.
فنحن حينما بدأنا بأدب التهنئة ، فأنت كائن اجتماعي وهكذا مصمم ، قهرك الله لتكون كائناً اجتماعياً تتقن عملاً واحداً ولكنّك تحتاج إلى مدرّس يعلّم أولادك ، وإلى طبيب ، وإلى محامٍ وإلى قاضٍ ، وإلى مفتي ، إلى بائع خبز وبائع لحم وبائع للخضراوات وإلى مزارع ، وإلى تاجر وإلى مستورد ، فأنت تحتاج إلى ملايين الملايين .
وأنت أحياناً من باب التأكُّد ادخل إلى بيتك ... فالقفل له مصانع ومعامل ، يقولون لك : هذا المعمل له من الخبرة مئة من السنين ، مئة عام للقفل فقط ، والخشب كيف استورد ، وكيف عولج، وكيف وضع في مستودعات خاصّة حتى لا يخرب ، والبلاط والطلاء والكهرباء ، وجهاز التبريد والتكييف والترطيب ، والمكواة ، فكل شيء في بيتك عبارة عن شركات عمرها مئة عام ، وذات خبرات متراكمة ، فأنت تأخذ خبرات البشر من مئة عام بدريهمات ، وأنت تقدم شيئاً للمجتمع .
فلو كنت تاجراً ، أو معلّماً أو مهندساً ، أو طبيباً أو صانعاً ، فالله عزَّ وجلَّ أرادك أن تكون اجتماعياً ، أراد من خلال ترابط المصالح ، ثم إنّه أراد أن تمتحن بهذه العلاقة ، و جعل طريق الوصول إليه عن طريق هذه العلاقة ، لذلك لا يتوافق الإيمان مع الانطواء ، ولا مع الانعزاليّة ، ولا مع التقوقع ، ولا مع الهروب والانسحاب ، فلا يتوافق .. لهذا قال عليه الصلاة والسلام : الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم .
أولاً أحد أكبر أسباب تمكين علاقاتك مع الناس ومع المؤمنين التهنئة ، فأيُّ خيرٍ أصاب أخاك المؤمن يجب أن تُهنّئه ، والأكمل يجب أن تزوره مُهنّئاً والأكمل من هذا وذاك يجب أن تذهب إليه ومعك هديّة ، فإذا جاء من الحجّ ، أو أنجب مولوداً ، أو تزوّج ، أحد الإخوة الأفارقة قال لي شيئاً لا أعرفه عن أفريقيا فقال : في التعزية ما من معزٍ يُعزّي هذه الأسرة إلا ويقدّم لها مبلغاً من المال بقدر إمكاناته ، فهذه الأسرة فقدت الرجل فأصبح لديها عجزاً ، فكل معزٍ يقدّم شيئاً من المال، وقد يتحصّل في أيّام التعزية مبلغاً ربما أعانهم على متابعة المسير.
فإذاً أول شيء في التهنئة هو تمكين العلاقات الاحتماعيّة ، و التعبير عن حبّك لأخيك المؤمن ، وتعني نفي الحسد ، لذلك التهنئة لأخيك المسلم إذا أصابه خير ولتدققوا فيما أقول فهذه التهنئة تُعدُّ من أعظم القربات إلى الله ، فلا تستخِفّ بها .
فأين أنت ذاهب ؟ ذاهـب لزيارة صديقي لتهنئته بالنجاح ، فهذا عمل عظيم ، وسأزور صديقي الآخر لأهنّئه بمولوده الجديد ، أو سأُلبّي دعوة صديق لي لعقد قران ، فهذه كلّها أعمال صالحة ، فأنت لا تعرف مقدار فرح الداعي لك إلى بيته بمناسبة ما كعقد قران أو باحتفال أو تهنئة والجميع يلبّون دعوته .
لهذا قال عليه الصلاة والسلام : من دُعي فلم يُلبّي فقد عصى أبا القاسم .
تلبيـة الدعوة فرض عين ، دعاك إلا إذا كان هناك عذر من قبلك أو من طبيعة الدعوة إذا كانت الدعوة فيها معصية ، فلا تُلبّي ولا تعبأ بهذه الدعوة ... الآن إلى النصوص .
روى الطبرانيّ في الصغير عن أنسٍ رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام : من لقي أخاه بما يُحبُّ ليسُرّه بذلك سرّه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة .
فإذا التقيت مـع أخيك وناديته بأحبِّ الأسماء إليه وبششت بوجهك، وبششت أمامه ، وكان وجهك طليقاً وصافحته بحرارة ، وهنّأته على خيرٍ أصابه ، والأكمل إذا كنت ميسوراً فمع هديّة ، فما الذي يحدث بينكما ، يحدث وود وحب وهذا الذي يريده الله بين المؤمنين .. المحبّة والمودّة والتعاون .
أحياناً تكرم ابن أخيك الصغير وهذا الإكرام إكرامٌ لأخيك ، وهو إكرام مباشر لأخيك .
وروى الطبرانيّ في الكبير عن الحسين بن عليٍ رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : إنّ من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم .
فالحديث الأول : من لقي أخاه بما يُحبُّ ليسُرّه بذلك سرّه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة . أما الحديث الثاني : إنّ من موجبات المغفرة .
فأيّها الإخوة الكرام ... من موجبات المغفرة أي إذا أردت أن يغفر الله لك ففكر في الذي يدخل على قلب أخيك السرور ؟ أن تزوره، أن تُهنّئه ، أن تواسيه ، أن تُعزّيه ، أن تُصبِّره ، أن تخدمه ، أن تُعينه ، أن تكون عوناً له من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم .
وروى الطبرانيُّ في الأوسط والكبير عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : إنّ أحبّ الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم .
بعد الفرائض : أي بعد الصلاة والصوم والحج والزكاة .. ومعنى ذلك أنّ المؤمن الصادق يبحث عن طريقة يدخل بها السرور على أخيه المسلم ، فهل نحن كذلك ؟ هل أصحاب النبي فعلوا مع بعضهم بعضاً كما نفعل اليوم .. تجد الحسد وتجده قنّاصاً يحاسبك على الكلمة ، ولا يقوم بزيارة أخيه حتى يبدأ الأول بزيارته ، أي عمليّة تراشق زيارات ، فهذه المبالغة بالمحاسبة أوالمعاتبة أوالمبالغة بسوء الظن ليس من أخلاق المؤمنين .
وروى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت قال عليه الصلاة والسلام : من أدخل على أهل بيتٍ من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنّة .
أي إذا وجدت رجلاً فقيراً وأنت ميسور الحال وأمددته بمعونه على أيّام الشتاء ، وأمنت له حاجاته الأساسيّة ، أو كان مريضاً فأكرمك الله عزَّ وجلَّ بأن جعل شفاء هذا المرض على يديك ، أو كان بحاجة إلى عمليّة جراحيّة فتكفّلت بنفقاتها ، شيء سهل ... فقد حدّثني أحد الأخوة ويبدو أنّه رقيق الحال وله مركبة يعيش منها ، وضرب مركبته إنسان أرعن فاجر ومعتدٍ كذلك ، وتحتاج مركبته إلى تصليحات تبلغ الخمسين ألفاً من الليرات ، وهو يقف بالطريق مرّ إنسانٌ محسنٌ كريمٌ نظر فرأى هذه السيّارة وما تحتاج إليه من تصليحات وصاحبها فقير يعيش منها ، والضارب أرعن ظالم ، فقال له : لا تحزن عليّ تصليحُها .. فماذا فعل؟ أدخل على قلبه السرور.
فقد كان أيّها الإخوة الكرام السلف الصالح إذا مشوا في الطريق ووجدوا بائعاً للعنب ولم يبع شيئاً منها إلى ما بعد وقت العشاء والبضاعة من النوع السيّء ، فيقوم بشراء كل ما لدى البائع ويذهب إلى بيته فيتشاجر مع زوجته ويقول لها أحضرتهم لنصنع منهم الخل .
وقد أوقف أحدهم وقفاً مفاده إذا رأى طفلاً معلّمه ظالماً أو إمرأة كسرت آنية من الأواني وزوجها ظالم فيأتوا بقطعة من هذا الإناء فيحصل على إناء جديد وبهذا قد حلّ مشكلة .. فقد كان السلف الصالح يتفننون لخدمة الناس ، ويتفننون بإكرام الناس ، وبحل مشاكل الناس ، الآن يخلقون المشاكل لبعضهم البعض .
فكلّما وجد في قلب الإنسان الرحمة وامتلأ بها تجده يعبّر عنها بالعمل الصالح ولذلك كما قال عليه الصلاة والسلام : من أدخل على أهل بيتٍ من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنّة .
قد تكون أحد الأسر وفيها شقاق فالأولاد مشرّدون بين أمّهم وبين أبيهم ، وكبر على الزوج أن يذهب إلى بيت أهل زوجته ، وكبر على الزوجة أن زوجها لم يأت لأخذها إلى بيته ، وهي تتلقى من أهلها تغذية شيطانيّة وهو كذلك يتلقّى من أهله ، وهناك تباعد بينهما ، فيأتي إنسانٌ فلا يقول نتركهم على حالهم - يصطفلوا ، أو ينباعو بالعزى- بل يتدخّل ويقرّب وجهات النظر ويقوم بزيارة أهل الزوجة ويقنعهم بالزوج ، ويزور أهل الزوج ويقنعهم بالزوجة ، ويتوسط بإحضار الزوجة إلى بيت زوجها وبنفسه ، فتلتئم الأسرة بذلك ويدخل على قلب الأولاد السرور فقد أصبحوا بين أمّهم وأبيهم ، فماذا فعل هذا الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام : أفضل شفاعةٍ أن تشفع في نكاح.
أسرة تصدّعت تعيد التئامها ، فلو أخوان هجر بعضهما بعضاً فتعيد المحبّة بينهما .. فيا أيُّها الإخوة الكرام ... من أدخل على أهل بيتٍ من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنّة .
فقد عاينت هذا الشيء بنفسي في أحد المرّات .. وجدت أخاً رقيق الحال ويحتاج إلى عمليّة جراحيّة ، فتبرع أحد الأشخاص بأجر هذه العمليّة وكان المبلغ كبيراً ، وزرت هذا الأخ بعد نجاح العمليّة فوجدّت أولاده فرحين ، والبيت مليء بالفرح فقد نجحت العمليّة وكان أبوهم مريضاً فشفاه الله ، كان دائماً يخيّم عليهم الهم والحزن الزوجة كئيبة والأولاد يرون أباهم وأمّهم في هذه الكآبة فيكتئبون ، وهذا الإنسان الذي قدّم أجر هذه العمليّة والكبير وقد نجحت العمليّة وأدخل على قلب الأهل السرور لشفاء أبيهم فهذا ماذا فعل ؟ أليس هذا أحسن من أن يقيم ليلة عرس في فندق كبير ويدفع في هذه الليلة مليون ليرة وبعد ذلك يتكلّمون عليه ، أحد الأشخاص وضع في كل علبّة من علب الملبس ليرة من الذهب ، فقيل عنه : وبدلاً من أن يثنون عليه ، قالوا لو وضع ليرتين بدلاً من هذه الليرة ، فإرضاء الناس غايةً لا تدرك ، فأنت إرض الله عزَّ وجلَّ .
كان الشيخ عطا الكسم مفتياً ، وكان رجلاً عالماً كبيراً فإذا دعى كبراء القوم ، الوالي مثلاً إلى طعام وضع طعاماً خشناً نحو الكشكة أو المجدرة وكان أولاده ينزعجون كثيراً ويقولون له : مّا هذا يا أبي فلقد أنزلت من قدرنا وشأننا . فيقول : هذا الأكل لا يأكلونه يا أبنائني لذلك يحبّونه، وكان إذا دعى الفقراء يصنع لهم لحماً . فالأصل أن ترضي الله عزَّ وجلَّ بأن تعلّم هؤلاء المترفين ماذا يأكل الفقراء ، وتطعم الفقراء الطعام الطيّب ، فدائما ضع المظاهر تحت قدمك ، ولا تبالي فيهم وأرض الله عزَّ وجلَّ .
فإذا تمكّن الإنسان أن يؤلّف بين زوجين ، ويفرّح الأطفال كأن يكسو طفلاً على العيد بملابس جديدة يزهو بها ، أو يؤمّن مساعدة لأسرة فقيرة ، فعندما ينفق الأب على أهله وأولاده ويجدهم مسرورين سيفرح كثيراً ، فإذا قدّمت المساعدة لأسرة فقيرة فهذا شيء جيّد .
أعرف رجلاً صالحاً يعمل في مهنة التعليم إذا رأى طفلاً فقيراً فلا يعطيه ولكن يطلب والده فيقدم له المساعدة ويقول له : اشترِ لابنك سترة ، فيأتي الابن في اليوم التالي إلى المدرسة وهو يلبسها وهي ليست مساعدة من المدرسة ولكن من والده .. فبعض الناس عندهم حكمة .. فقد أراد أن يجمع بين كسوة الطفل وبين كرامته ، فيدفع المبلغ لوالده ليشتري لابنه السترة ، فهذا الطفل لايرى أنّه فقير .
وبعض المعلمين تجدهم يدخلون إلى الصفوف ويقولون : من منكم الفقراء ، الفقير يرفع إصبعه لنكتب اسمه ؟ فما هذا الكلام ، فقد جعلت طبقيّة فيما بين الطلاّب ، وقد أذللت الفقراء بهذا الكلام .
فلذلك إدخال السرور على قلب المؤمن ، وعلى قلب الأسرة المسلمة وحلّ مشكلات الناس... فهؤلاء الذين في قلوبهم رحمة ، الذين لا يسعدون إلا إذا مسحوا دموع الأسى عن وجوه الصغار ، وأكثر عنصر في المجتمع يؤلم النفس هو الطفل الصغير إذا كان جائعاً أو عارياً فليس عليه ثوب يقيه من البرد .
فالبعض يكون له أخت متزوّجة فيقول لك : والله لم أزرها من ستّة أشهر ، أتعرف أيها الأخ الكريم إنّك لو قمت بزيارة أختك ستنتعش نفسك انتعاشاً ليس له حدود ، فزوجها سيجدها مقطوعة من الأهل وليس لهـا أحد يسأل عنها .. وقد روى لي أحدهم فقال : شكوت زوجتي لأخيها عن مشكلتي معها فقال لي طلقها فماذا تريد منها .
هذه نصيحة أخو الزوجة لزوجها أن يطلقها لأنّها غير حسنة وغير جيّدة .
ويوجد لدينا أخ يحضر في هذا الجامع معنا وقد أكبرته كثيراً فقال لي : لي أخت معذّبة مع زوجها .. فيذهب لزيارتها مرتين في الأسبوع ، فيخفف عنها ويصبّرها ، ويواسيها ، ويقنعها بزوجها ويقول لها : كلّ الأزواج بهذا الشكل ويجب أن يطول باك عليه ، ولك الجنّة . فزيارته لها تعينها على الصبر .
فمن له أخت أو قريبة من محارمه يجب عليه أن يزورها ويخفف عنها ، يجب أن يكون لك سهم بإدخال السرور على قلب المسلم ، هذا من موجبات المغفرة .
قال صلّى الله عليه وسلّم : إنّ أحبّ الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم .
وقال صلّى الله عليه وسلّم : إنّ من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم .
وقال صلّى الله عليه وسلّم : من لقي أخاه بما يُحبّ ليسرّه بذلك سرّه الله عزَّ وجلَّ .
وقال عليه الصلاة والسلام : من أدخل على أهل بيتٍ من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنّة .
قال لي أحدهم وحالته الماديّة جيّدة ، ويوجد شخص يقوم بعمل التنظيفات في البناء ويبلغ من العمر السبعين عاماً ولديه أولاد وله دخل قليل فقال له : كم تأخذ مبلغاً من المال شهرياً ؟ فقال له: ثلاثة آلاف . فقال له تعال وخذهم منّي واذهب لترتاح فكفاك ذلك . فهو في السبعين من عمره ولا يتحمل مسح الأدراج .
فهؤلاء الأغنياء لو عرفوا كم من أبواب الرحمة مفتّحة لهم لو أعانوا الناس ، فالمال شقيق الروح ، ويمكنك أن ترقى بمالك عند الله إلى أعلى الدرجات .. فسبحان الله الغني ينفق الجاهل المال تبذيراً وإسرافاً للمباهاة ، فإذا أنفقوه أنفقوه إسرافاً وتبذيراً ، وإن منعوه منعوه بخلاً وتقتيراً.
فبعض الناس حتى لا يتكلّم عليه أحد يأتي للتهنئة - يضع العقدة - كأنّه حاقد أو حاسد ، فمن آداب التهنئة أن يبدو الفرح على وجهك .
فأيها الأخوة الكرام ... يوجد مقياس للإيمان لا يخيب أبداً ، فراقب نفسك هل تفرح إذا أصاب أخاك خير.. فإذا أخٌ لك اشترى بيتاً جيّداً ، أو تزوّج أو استلم عملاً جيّداً ، أوله أولاد نجباء كلّهم مثقفون ثقافة عالية فإذا حسدته فأنت لست مؤمناً ، وإذا فرحت فرحاً حقيقياً لأنه اشترى البيت الجيد أو تزوّج أو وفقه الله في الدعوى وأطلق له لسانه وعزّه الله ، فإذا أفرحك ذلك فأنت مؤمن ، وإذا انزعجت من ذلـك واصفر لونك فتساءلت متى كان ذلك!! وطعنت بعلمه وبأخلاقه فمعنى ذلك أنّك حسود والحسود لا يسود .
فلذلك أيّها الإخوة علامة الإيمان أن تفرح بخيرٍ أصاب أخاك ، فعلامتك أن تهنّئه ، فالإسلام ليس فيه بروتوكولات .. وقد قالوا عن الدبلوماسيّة : هي التعبير عن أسوأ النوايا بأحلى الألفاظ ، فالإسلام ليس فيه ديبلوماسيّة ، فالإسلام فيه حباً حقيقياً ، فعندما تزورأخاك مهنّئاً له بزواج ابنه أو ابنتـه ، أو لنجاحـه بشهادة عُليا أو بتأسيس عمل ، أو بشراء بيت أو بنجاحه في الدعوى ، وقد زرته وأنت فرح حقيقةً ، فرحاً من أعماق قلبك ، وعلامة فرحك أن يبدو على وجهك ، والحياة بين المحبّين جميلة جداً ولو كان الفقر موجوداً .
فأحياناً تجد أسرةً تأكل أخشن الطعام ولكن يوجد بينهم المحبّة ، وأسرة أخرى تأكل من أفخر الطعام ولكن لا يوجد بينهم المحبّة ، فالسعادة لا تنبع ولا تأتي من الخارج ولكنّها تنبع من الداخل، فيكفيك أن تحبّ الذين من حولك فأنت أسعد الناس ، فقد يكون الدخل قليلاً أو كبيراً ويكون البيت كبيـراً أو صغيراً ، ويكون مرتفعاً أو قليل الارتفاع ، أجرة أو ملك ، ليس هذا شرطاً ولكن الشرط أنّك مع من حولك تحبّهم ويحبّونك ، والحب أساسه الإيمان .
ومن هو العاجز ؟ العاجز هو من يعجز أن يتخذ صديقاً مؤمناً ، فبعض الأشخاص يتجنبه الآخرين ذو أخلاق فظّة ، حساساً وسريع الغضب يحاسب على الكلمة - نؤزيي - المؤمن سموح.
فقيل عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه كان يمشي ليلاً في المسجد فدعس على رجل أحدهم وكان مستلقياً في المسجد فقال لأمير المؤمنين دون أن يعرفه : أأعمى أنت ؟ فقال له: لا . فقيل له : أنت أمير المؤمنين ؟! فقال : سألني فأجبته بأنني لست بأعمى . فالمؤمن بسيط وليس معقّداً ، ولا ينتقد ، فالذي جرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ثوبه وكان يلبس برداً يمنياً فأثّر على عاتقه الشريف وقال له : أعطني من مال الله ، فهذا المال ليس مالك ولا مال أبيك . فتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه : صدق إنّه مال الله . وأعطاه دون أن يفعل له شيئاً .
العظماء لا ينتقمون من أحد بل يرحمون ، العظماء سرورهم في إدخال الفرح على الناس.
إذاً الشيء الأول .. إذا أردت أن تهنئ شخصاً فلا يكن وجهك مصفراً بل متورّداً بشوشاً فرحاً بنجاحه بالفعل .
فقد لا حظت ذات مرّة شخصاً حضر ليهنّيء شخصاً بمجيئه من الحج فكأنّ له ثأراً معه جلس دقيقتين ووجه مصفر ، وعاقد عقدة في جبينه وانصرف ، فهل هذه تهنئة ؟!!
جاء في الصحيحين في قصّة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه قال كعبٌ : سمعت صوتاً صارخاً يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر .. أبشر يا كعب بن مالك . فذهب الناس يبشّروننا وانطلقتُ أتأمم - أي أقصد - رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، يتلقّاني الناس فوجاً فوجاً يُهنّئونني بالتوبة ويقولون : ليهنئك توبة الله عليك . حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحولـه الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني وكان كعب لا ينساها لطلحة .
قال كعب فلما سلّمت على النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور قال : أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمُّك .
هكذا علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم ... فقد قاطعه النبي مع أربعة غيره ، وعندما تاب الله عليه فرح له الصحابة جميعاً بهذه التوبة وتألّقت وجوههم وقام الصحابي الجليل سيّدنا طلحة مهرولاً وصافحه وهنّأه وبرق وجه النبي عندما هنّأه .. إذا فالتهنئة من آداب الإسلام .
دائما تفقّد أخاك واسأله عن أحواله وأخباره ، فإذا قال لك : والله نجحت . فقل له : بارك الله بك ، هنيئاً لك النجاح . وإذا أنجب مولوداً فقم بزيارته وقدّم له هديّة ، والهديّة دين يا أيها الإخوة فليس فيها خسارة تؤدي وتتلقى ، فالنبيّ كان يتلقى الهديّة ويردُّ عليها ، فيكافئ على الهديّة بأخرى مثلها ، فالهديّة تمتّن العلاقات وتوثّقها .
فإذا جاء لأخيك مولود والولادة صعبة تتطلّب الكثير من النفقات فإذا رفاقه ومن حوله من جيله قدّم له كل منهم شيئاً ، وأتمنى الآن تغيير هذا الترتيب بترتيباً آخر ، فبدلاً من كل واحد من المهنئين يحضر مئة طقم من الملابس الخاصة بالمولود فماذا يفعل بهم ؟ ولكن اسأله : فأنا أريد أن أقدّم لك هديّة بهذا المبلغ فقل لي ما يلزمك ؟ ارفع الكلفة واسأله فإذا جاء للإنسان هديّة وهو بحاجة لها فهذا شيء رائع ، أما إذا لم يكن محتاجاً لها فإذا كان عنده مئة صينيّة من القهوى فماذا يفعل بهم، أو كاسات ولك ماذا يريد هذا الإنسان ؟ فقل له : أنت أخونا وحبيبنا وقد أردت أن أهديك بهدية هذا المبلغ . وتوجد طريقة أخرى هي أن يتعاون أربعة أو خمسة من الإخوة ويجمعوا مبلغاً قيّماً ويشتروا له ما يلزمه ، فإن كان يلزمه سجادة في الشتاء ولا يملك سجادة أو يكون طالباً للعلم وافداً إلينا من بلد آخر وفي هذا الشتاء ولا يوجد لديه في بيته سجادة ، وأنت لديك سجادة فلم تشعر به .
فإذا تعاون الإخوة على شراء سجادة ، أو مدفأة ، أو مواد تموينيّة إذا كان الأخ فقيراً مواد تموينيّة جيدة جداً فلا تقدّم هديّة للاحتفاظ بها في خزانته ، أو تكون متكررة ، فقدم هديّة حقيقيّة فتأتي في محلّها ، فهذا عمل صالح ، فجزء من عملك الصالح هو أن تعاون أخاك ، وأكبر هديّة ثمينة تقدّم أثناء الزواج .
فوالله عندما أسمع عن تعاون إخواننا بأن قدّموا لأخيهم براداً مثلاً أو غسّالة أو سجادة أو غرفة نوم أحياناً ، وقد يتعاون عشرة أشخاص مثلاً على ذلك فأشعر بفرح ليس له حدود فهكذا يريد الله من المسلمين أن يتعاون بعضهم مع بعض .
فلا تكن هديّتك هديّة بروتوكوليّة ودبلوماسيّة ، أو هديّة متكررة ، فأحياناً تكون الهدايا عينيّة وهي مفيدة جداً .
الآن مثلاً .. جاءه مولود .. فينبغي أن تقول له : بورك لك بالموهوب ، وشكرت الواهب، ورزقت برّه ، وبلغ أشدّه .
بورك لك بالموهوب .. أحياناً يكون الابن نقمة على أبيه ، فبآخر الزمان : يصبح المطر قيظاً ، والولد غيظاً ، ويفيض اللئام فيضاً ، ويغيض الكرام غيضاً .
وأحياناً أخرى يكون الابن بركةً على أهله أثمن شيء في هذه الحياة ابن بار ، وقد أقسم بالله واحداً من الناس قائلاً : والله لو مات ابني دهساً أوقتلاً فسأحيي مولداً فرحاً بذلك . على قدر مضايقته لأبيه .. وحش من الوحوش السائبة ، قتل لأبيه وضرب وابتزاز أموال وصخب وانحراف ، وهذه القصّة منذ اثنى عشر سنة ، فهل هذا ابناً .
وقد تجد الأب متعلقاً بابن له .. كلّه خير لأبيه ، فإذا رزق أحدهم مولوداً فالتهنئة أن تقول له: بورك لك بالموهوب ، وشكرت الواهب - على ما وهب - ، ورزقت برّه ، وبلغ أشدّه .
أحياناً تحد من يعتني كثيراً بابنه ولكن وهو في سن الخامسة عشر توفاه الله ، فلم يقطف ثمار هذا الاعتناء قال تعالى :
(( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ )) (الصافات 102)
وبلغ أشدّه .. أصبح في طول أبيه ويعتمد عليه وسلّم له المحل ، وابنه أصبح في المحل وهو أمين وكفؤ وموثوق به يحل محلّه فيستطيع الأب أن لا يذهب بعد الظهيرة إلى العمل بالمحل ، وهذا الابن الذي أعان أباه في عمله هو من إكرام الله له ومن نعمه الكبرى .
ويوجد دعاء آخريردّ به على من جاءه المولود على الداعي له بقوله : بارك الله لك وبارك عليك ورزقك الله مثله .
وإذا لم تحفظ هذه العبارات فيمكن أن تقول أيّة عبارة اخرى .. كأن تقول: جعله الله من الأولاد الصالحين ، أو جعله الله قرّة عين ، وهذا الكلام طيّب ومأخوذ من القرآن قال تعالى :
(( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )) (الفرقان 74)
أو أن تقول له : الله يقر عينك فيه ، أو الله يجعله من الصالحين أو أي عبارة فإذا نسيت الدعاء فهل تظل صامتاً ، فيوجد بدلاً منها ألف عبارة .
وإذا جاء إنسان من سفر فتدعو له وتقول : الحمد لله الذي سلّمك، وجمع الشمل بك وأكرمك.
وهذا الدعاء مروي عن السلف .
ويمكنك أن تقول : حمداً لله على السلامة ، إنشاء الله سفراً مباركاً ، إنشاء الله سالم غانم ، فأعطيك مرونة ولكن يجب أن تختار عبارة أصلها من الكتاب والسنّة ، فإذا كان أخ جاء من سفر أزوره وأهنّئه على عودته .
أو قدم أحد من الجهاد فقل له : الحمد لله الذي نصرك وأعزَّك وأكرمك .
أو جاء إنسان من الحج فقل له : قبل الله حجّك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك .
الآن نقول : حجاً مبروراً ، وذنباً مغفوراً ، وسعياً مشكوراً ... فالحج المبرور ليس له ثواباً إلا الجنّة .
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال جاء غلام إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : إني أُريد الحج . فمشى معه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال : يا غلام زوّدك الله التقوى ، ووجهك في الخير ، وكفاك الهم . فلمّا رجع الغلام إلى النبيّ . قال : يا غلام قبل الله حجّك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك .
يقول الحاج لك : هذه الحجّة قد كلفتنا ثمانية وستون ألفاً . فالله يعوض ما أنفقته عليك .. فإذا استقبلت حاجاً فقل له : قبل الله حجّك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك .
فعوّد نفسك إذا كان لك إخوة قد حجّوا فزورهم واحداً واحداً ، أو إذا جاؤوا من السفر - ليس سفراً قصيراً وقريباً ولكن سفراً طويلاً - ، أو إذا رزقوا مولوداً أو تزوّج أحدهم .
وفي عقد النكاح يستحبُّ أن يقال لكلا الزوجين : بارك الله لك ، وبارك عليك ، وجمع بينكما على خير .
وكذلك من الكلام اللطيف : بالرفاء والبنين . فالرفاء : الاجتماع والوئام . والبنين : الإنجاب. لكن هذه التهنئة تهنئة جاهليّة فالأولى أن نهنّئ والتهنئة الإسلامية بارك الله لك ، وبارك عليك ، وجمع بينكما على خير .
فمتى يأتي العيد ؟ يأتي عقب عبادة كبيرة ، عقب الصيام .. فقد صام وقام ثلاثين يوماً وقرأ القرآن فيهم وصلّى التراويح ، فقد قام بتلك العبادات ثلاثين يوماً ، وجاء العيد وأهم دعاء يقال له : تقبّل الله منك هذه الطاعة .. وهذه العبارة : تقبّل الله منا ومنك هذه مسندة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في يوم العيد .
صنع شخص إليك معروفاً ، فقدّم إليك خدمك فماذا تفعل تجاهه؟ تقول له : بارك الله لك في أهلك ومالك وجزاك الله خيراً .
فأحياناً وبشكل لا شعوري كلّما دعوا الإخوان للتبرُّع لأحد المساجد في يوم الخطبة وأعرف أنّهم قد دفعوا مبلغاً كبيراً وضعف ما أتوقّع ، ففي الخطبة التالية أقول لهم : بارك الله لكم في أهلكم وفي مالكم وحفظ الله مالكم ونمّى الخير في بيوتكم .
فقد تأتي لجنة جمع التبرعات من أطراف حلب فيذهبون لجامع آخر فيجمعون ألفاً أو ألفين من الليرات ، ولكن هنا يدفع لهم مبلغاً من المال كبيراً جداً فأصبح الجامع مقصوداً ، وأصبح إخواننا مظنّة صلاح وسخاء ولهم سمعة طيّبة ، فمن جعل الوجوه بيضاء سوى إخواننا المصلون، فبشكل لا شعوري أدعو لهم بالدعاء السابق .
قال سيّدنا عبد الله بن أبي ربيعة : استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم مني مالاً فلما ردّه قال : بارك الله في أهلك ومالك إنما جزاء المسلم الحمد والثناء .
فإذا أقرضك أحدهم ديناً و رددته له فيجب أن يسمع منك ألطف العبارات كأن تقول له : جزاك الله الخير ، تفضّلت علي ، الله يبارك لك في أهلك وأموالك ، فلقد خدمتني خدمةً لا تنسى. هكذا المؤمن .
أما أن تقول له : تعالى وخذ نقودك . فما هذا فقد قال الله عزَّ وجلَّ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (البقرة 178)
وأداء إليـه بإحسان ، اذهب إلى بيته فمثل ما أخذت المبلغ من بيته يجب أن تؤديه إليه في بيته .
أحياناً يستعير منك كتاباً كالقاموس ، ويلقاك في الطريق فيعطيه لك ، فأين تعطيه لي الآن فكما أخذته من البيت فرده لي في البيت ولا تجعلني أحمله في ذهابي .
فبعض الناس ليس لديهم أيّة ملاحظة فقد يحملك شيئاً أنت الآن في غنى عن حمله ، فكما أخذته من البيت فأعده إلى البيت وهذا ما جاء في الآية الكريمة وأداء إليه بإحسان أي أوصله ف(إلى) تفيد انتهاء الغاية ، و(بإحسان) : أي بكلمة طيّبة كأن تقول له : جزاك الله الخير . فالكلمة الطيّبة صدقة ، وبعض الناس كلامهم قاسٍ كثيراً أو قد يسكت ، وقد ترى شخصاً ذا كلام لطيف ويؤسر ، وقد قيل : إما اللسان وإما الإحسان .. والإثنان معاً أفضل .
وروى الترمذي عن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من صنع إليه معروفٌ فقال لفاعله : جزاك الله خيراً فقد بلغ في الثناء .
فكلمة : جزاك الله خيراً أي أنا أضعف أن أجزيك فالله هو الذي يجزيك عني كلّ الخير . كلمة صادقة تقال من القلب تنسيك تعبك ، فعوّد لسانك على الكلام الطيّب .. كأن تقول : جزاك الله خيراً .
إذاً توجد لدينــا التهنئة لمن قدّم لك خدمة .. والتهنئة بالعيد .. وبالنكاح .. وبالقدوم من الحج.. وللقادم من الجهاد .. أو السفر .. وبالمولود . هذه هي أنواع التهنئة التي وردت عن النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم .
قال يستحبُّ المهاداة مع التهنئة .. فأحياناً قد تقدم هديّة لا تكلف خمسين ليرة وتترك في النفس أثراً كبيراً ، فليس من الشرط أن تكون الهديّة غالية الثمن فكلٍ على قدره ، قد يزور أحدكم أخته في يوم الجمعة فيأخذ معه كيلو من الفول ثمنه خمس وعشرون ليرة ، فأنا لا أدعو لهدايا فوق طاقة الإنسان ، مثلاً كيلو من التفاح أو الفواكه يكفي ، أو يكون مسافراً فيأتي ومعه شيء عادي جداً ولكن حاملاً بيده شيء فهذه تنشيء المودّة .
فقد روى الطبراني والعسكري عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : تهادوا وهاجروا ، تورثوا أبناءكم مجداً وأقيلوا الكرام عثراتهم.
فلم يقل : أُهدوا .. بل تهادوا ففيها مشاركة ، أي أنّك تلقيت فكافئ ، قدّمت .. فتلقّى .
وقال عليه الصلاة والسلام : يا نساء المؤمنين تهادينَ ولو فِرسَنَ شاةٍ ، فإنّه ينبت المودّة ويذهب بالضغائن .
فِرسَنَ شاةٍ : أي يد شاة - مقدُم - واحد وليس زوجاً منه .
وروى البخاريُّ في الأدب المفرد وأحمد مرفوعاً : تهادوا فإنّ الهديّة تذهب وحر الصدر .
وحر الصدر : أي غِشّه وحقده .
والد أحد إخواننا يحمل في جيبه قطعاً من الحلوى - السكاكر - وبكميّة كبيرة ، فكلّما رأى طفلاً مع والده أعطاه منها ، والطفل يجد هذه القطعة جيّدة جداً ، وقد ذكرت لكم ذات مرّة بعد درس ممتع جاء ليسلّم عليّ أحد الإخوة ومعه ابنه فأعطيته قطعة من الحلوى كنت أحملها ، وقلت لأبيه هذا الدرس له طعم عندك ولكن عند ابنك ليس له طعماً ولكن بهذه الحلوى أصبح له طعماً .
فإذا كنت تريد أن تكرم ابنك فكلّما حضر معك إلى الجامع اشتريت له أكلاً طيّب المذاق فيقترن ذلك مع مجيئه للجامع ، فهكذا يفهم الطفل .. وفي العيد الماضي أحضرت قطعاً من الحلوى للصغار وكلما حضر ابنٍ طفل مع أبيه أعطيته قطعة منها ، فحدثني أحد الآباء عن ابنه وهو يقول لأمّه في البيت : إنني قد أحببت هذا الشيخ كثيراً ودوماً سأذهب مع أبي إلى الجامع .. فالطفل عبد الإحسان فإذا أردت أن تجلب قلبه نحوك فاجلبه بشيء يسرّه فإذا ربطت بين مجيئه معك إلى المسجد وبين شيء يأكله كهديّة أو قطعة من الحلوى فسيحب المجيء دوماً .
بأحد احتفالات القرآن الكريم كان هناك طفل يبلغ من العمر الخمس سنوات ويحفظ جز أو ثلاثة ، ولكل الحفّاظ قدموا كتاباً ثميناً ولهذا الطفل قدّموا علبة من الشكولاته تناسب سنّه .
وللديلمي عن أنسٍ مرفوعاً : عليكم بالهدايا فإنّها تورث المودّة .
بعض الناس يمونون الهدايا ، فمن يريد تمتين علاقاته بالآخرين، دائماً تجد عنده هدايا جاهزة ولو لهديتين أو ثلاث ولو كانت هدايا رمزيّة، كأن يحتفظ بعدد من الأقلام أوبدفتر هاتف أو بدفتر لحفظ الصور أوالأشياء اللطيفة والمهيّئة ، فإذا رأى شيئاً يستدعي ذلك أو مناسبة أو زاره شخص مع ابنه وأراد أن ينشئ أو يقيم مودة بينه وبين الزائر وابنه لايحتاج إلى تفكير فيما يعطيه.
القسم الأول من آداب التهنئة .. يجب أن تظهر الفرح في التهنئة.. والقسم الثاني ماذا تقول في التهنئة ، والقسم الثالث يستحبُّ المهاداة مع التهنئة .
أما أساس التهنئة هو تمتين العلاقات الاجتماعيّة .. أن يكون المؤمنون كالبنيان المرصوص، وأساسها إرادة الله أن يكون الإنسان كائناً اجتماعياً ، فقد قهره بذلك ، فقد جعله مضطراً لأن يعيش مع مجتمع ، وما دمت أنت مقهوراً أن تكون اجتماعياً فبقي عليك أن تعبّر عن كمالك الأخلاقي بهذه العلاقات النامية ، فالتهنئة جزء من الدين .
فإذا دعاك أحد إلى عقد قران ، أو إلى مولد ، أو إلى تهنئة بإنجاب مولود ، فأحد الإخوة أقام مولداً في بيته فقد سرقت سيارته ووجدها بعد شهر ، فدعى بعض العلماء وقام بتوزيع الحلوى وألقوا الكلمات ، فكلّما انحلّت مشكلة أقمنا احتفالاً فبذلك نعلّم الناس الدين بهذه الكلمات وكذلك نضيّفهم .
فإذا نجح أحدهم في عمله أو تخلّص من مشكة فأقام حفلة ، فماذا يمنعك أن تدعو أحبابك وأطعمهم من الحلوى وادعُ عالماً أو عالمين وقدمهم لإلقاء كلمات فيها من التوجيه المفيد ، فهذا شيء جميل .
فقد سمعت عن أحدهم كان شيوعياً أي ملحداً ، ظلّ ابنه يدعوه أباه أكثر من سنتين أو ثلاث حتى أقنعه بأن يصلي ، وأول صلاة صلاّها أبوه عمل له مولداً وجمع أصدقاء والده الذين هم على شاكلته ودعى عدّة من العلماء الكبار وألقوا الكلمات وأقنعوا الحضور ، فإذا ابنك مثلاً حفظ القرآن أو حصل على الشهادة بتفوّق فقم بعمل مولد ، واستغل المناسبات واجمع الناس وعرّفهم بالله عزَّ وجلَّ ، فهذا عمل عظيم ، فكلّما كثرت المناسبات .. كمن سرقت سيارته ، أو لشفاء مريض من مرضه العضال، أو عقد زواج ، أو إنجاب مولود ، أو نجاح في شهادة ، أو لتأسيس عمل ، أو نجاح في العمل ، أو مشكلة صرفت عنه ، فأقام مولداً واحتفل بكل من هذه المناسبات ، فالقصد هو جمعك للناس وأن تدُلّهم على الله إن كنت تقدر على ذلك أو يدلّهم غيرك على الله ، فالقصد أن يكون لك عمل صالح لتساهم في نشر الحق .
فالمناسبة وسيلة والأصل هو الدعوى إلى الله ، فأحياناً في عقود القران ألقي كلمات فأقول: هذه الكلمات في هذه المناسبات ليست جزءاً من الاحتفال ، إنها جزءٌ من الدعوى إلى الله ، لذلك إذا دعي الإنسان فعليه أن يُلبّي ، وإذا طلب إليه كلمة فلا يتدلل بل يقوم ويبلغ الحق للناس ويلقي لكلمة .
توجد نقطة على كثير من الأهميّة يطبقها بعض إخواننا الكرام يكون لهم أقرباء كثر ولا يصلّون ولا يتوجّهون إلى بيوت الله إطلاقاً ، فيقوم بعمل مولد في بيته ويدعو من يثق بعلمه وإخلاصه ومنطقه السديد، ويلقي هذا الإنسان كلمة ، ويقدم لهم الضيافة ، وبذلك كأنّه دعاهم إلى أن يستمعوا إلى هذه الموعظة ، فيجوز من المائة الحضور يهتدي إلى الله منهم أربعة أو خمسة ، فليكن همّك نشر الحق ، واجعل المناسبات وسائل إلى دعوة الناس إلى الله عزَّ وجلَّ.
وقد انتهينا من درس أدب التهنئة وننتقل إلى درسٍ آخر إن شاء الله إلى أدب عيادة المريض.